تفسير التحرير والتنوير لإبن عاشور
قراءة في المنهج وأدواته
أبو الفضل شكوري
تعريب: محمد حسن زراقط
لقد كان القسم الغربي من العالم الإسلامي من الأندلس إلى الجزائر ومراكش وتونس وغيرها مهداً مباركاً للفكر والثقافة الإسلامية, ما جعل المسلمين في غير هذه المناطق مدينين لأهلها بكثير من العلوم والمعارف. فابن رشد، وابن طفيل، وابن حزم، والقرطبي وابن خلدون وغيرهم الكثير كانوا من أبطال ساحات العلم والمعرفة في تلك البلاد. فمن تلك الديار ترددت أصداء نتاجهم العلمي والمعرفي إلى أن وصلت آثاره إلى شرق العالم الإسلامي.
وإن ذلك التراث الخالد لذلك الجزء من البيت الإسلامي الكبير أكبر من أن يشار إليه في مقالة واحدة فضلاً عن التعريف به بشكل واسع. ولقد حاول الاستعمار القادم من وراء البحار القضاء على أواصر الصلة بالماضي فكرياً وثقافياً كما حاول وأد البراعم الناشئة لهذا الفكر بطرق شتى ومن خلال السيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولقد كان هذا الأمر سبباً لتأخر الفكر الديني في المغرب عن ركب الأمة في أرجاء المعمورة الأخرى. ولكن ما فتئ أن أضاء مشعل الجهاد والرغبة في الاستقلال في نفوس مسلمي تلك الديار حتى نبغ من بينهم علماء ومفكرون بزًّوا أقرانهم وأنتجوا في فنون عدة أبدع الآثار, ومن المجالات التي طرقوها القرآن وعلومه.
ابن عاشور واحد من علماء تونس الكبار وواحد من أولئك الذين استوعبوا العلوم الإسلامية وأضافوا إليها ما يغنيها. ومما تركه هذا العالم الفذ تفسيره للقرآن الكريم المسمى بـ "التحرير والتنوير" الذي يمثل درة وهاجة بين مؤلفاته، ونحاول في هذه المقالة إلقاء الضوء على هذا التفسير والتعريف به ولكن قبل البدء يحسن بنا الوقوف عند حياة المؤلف.
سيرة ابن عاشور
الشيخ محمد طاهر بن عاشور (1296-1393هـ/1879-1973م) مفتي المالكية وشيخ جامعة الزيتونة وفروعها في تونس التي ولد فيها وتربى وتعلم وفارق الدنيا كذلك أيضاً. سنة 1932م تم اختياره لمنصب مشيخة الإسلام وحصل على عضوية المجمع العلمي العربي في دمشق والقاهرة.
له مؤلفات مطبوعة كثيرة منها: "مقاصد الشريعة"، "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، "الوقف وآثاره في الإسلام"، "موجز البلاغة" "أصول الإنشاء والخطابة"، و "التحرير والتنوير" في تفسير القرآن.
وقد أشرف على إصدار عدد من الكتب وتحقيقها منها ديوان بشار بن برد وله أبحاث نشرت في المجلات الدورية(). وإجمالاً يمكن القول إن ابن عاشور كان من المصلحين والعلماء العارفين بالزمان في بلاد المغرب الإسلامي.
ومما يتميز به ابن عاشور هو اهتمامه بعلوم العصر ومعرفته الواسعة بالتاريخ الإسلامي وعلوم العربية والآداب ومن هذا الخليط الثقافي والمعرفي أتت كتبه ومؤلفاته, ما جعل تفسيره معرضاً حياً لفنه وعمق فكره.
بعض خصائص التحرير والتنوير:
1- منهجه العام في التحرير والتنوير
التحرير والتنوير تفسير جامع للقرآن المجيد في ثلاثين مجلداً يقول المؤلف عنه في مقدمته: "أما بعد ، فقد كان أكبر أمنيتي من أمد بعيد تفسير الكتاب المجيد الجامع لمصالح الدنيا والدين وموثق شديد العرى من الحق المتين والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع وكلام مفسره ولكني كنت على كلفي بذلك أتجهم التقحم على هذا المجال وأحجم عن الزج بسية قوسي في هذا النضال ... وأنا آمل أن يمنح من التيسير ما يشجع على قصد هذا الغرض العسير وفيما أنا بين إقدام وإحجام أتخيل هذا الحقل مرة القتاد وآخرى الثمام إذا أنا بأملي قد خيل إليّ أنه تباعد أو انقضى، إذ قدر أن تسند إلي خطة القضاء فبقيت متلهفا ولا حين مناص ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه إلى أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة، فإذا الله قد من بالنقلة إلى خطة الفتيا وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا فتحول إلى الرجاء ذلك اليأس وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، هنالك عقدت العزم على تحقيق ما أضمرته واستعنت بالله واستخرته..."().
ولكون ابن عاشور مفسراً أصيلاً وصاحب منهج ومبنى في التفسير فقد بين في مقدمة تفسيره على مدى مائة وثلاثين صفحة وضمن عشرة محاور منهجه الذي سار عليه في تفسيره، وهذه المحاور العشرة هي:
1- تعريف التفسير والتأويل
2- العلوم المساعدة في التفسير
3- التفسير بغير المأثور وإمكانه
4- أهداف التفسير والمفسرين (وقد حدد ثمانية أهداف ينبغي على المفسر أن يعمل على تحقيقها).
5- أسباب النزول
6- القراءات ودورها في التفسير
7- القصص القرآنية
8- اسم القرآن وكيفية تسمية السور
9- المعاني الظاهرة للقرآن مقصودة
وقد عمل ابن عاشور على شرح هذه الأسس بالتفصيل ثم جعلها أسساً يسير على هديها في تفسيره للقرآن من سورة الفاتحة إلى سورة الناس. ومن الملاحظ أنه التزم عملياً بهذه الأسس واشتغل ضمن إطارها, وقد حاول مجانبة التكلف في تفسيره وتحاشي الآراء غير المأنوسة. وفي مقدمة تفسير كل سورة يشرح هويتها على الأساس الآتي: فيبين اسم السورة أو أسماءها، ووجه تسميتها، وكونها مكية أو مدنية، وترتيبها في النزول، وما سبقها وما نزل بعدها وعدد آياتها.
وبعد ذلك يطرح تصوره لأهداف السورة وأغراضها مبيناً في بضعة سطور مرامي السورة وخلاصة محتواها وهو بهذا العمل يهيئ ذهن القارئ للاستفادة من عمق مطالبها. ويمكن القول: بإنه كان موفقاً في هذا الأمر إلى حد كبير.
وفي المرحلة الثالثة يعمد إلى السورة, فيحلل معانيها ويفسرها بنثر رائع يجذب القارئ ويشده إليه ليتابعه طائعاً إلى آخر السورة.
ويحاول أن يقدم في تفسيره كثيراً من الحقائق العلمية والأخلاقية التي يستفيدها من كل سورة يعالجها. وحول العناوين الكلية التي مهدها أمام تفسيره يقول:
"وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال، واهتممت أيضاً ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي، وألَّف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى: "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع، فلم تزل أنظار المتأملين لفضل القول تتطلع. أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض، فلا أراه حقاً على المفسر.
ولم أغادر سورة إلا بيّنت ما أحيطُ به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصوراً على بيان مفرداته ومعاني جمله وكأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع جماله.
واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة. وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده، ويتناول فيه فوائد ونكتاً على قدر استعداده، فإني بذلك الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير،ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير؛ بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولاتِ القماطير، ففيه أحسن ما في التفاسير،وفيه أحسن مما في التفاسير"().
2- تفسير القرآن بالقرآن
إن المنهج الذي اتبعه ابن عاشور هو تفسيره للقرآن بالقرآن ويقضي الإنصاف أن نشهد له بأنه كان موفقاً إلى حد كبير في هذا المجال. مثلاً: إن القارئ لتفسير سورة المطففين في "التحرير والتنوير يتبين كيف أن مفسرنا المحترم استفاد بطريقة ملفتة من القرآن وآياته في تفسير كلمتي "ويل" و "كيل واكتالوا"().
وإن هذا المنهج قد استخدم ببساطة وطريقة قابلة للفهم لجميع الناس واستفاد من منهجه هذا بطريقة متزنة. ويمكن مقارنة "التحرير والتنوير" بتفسير الميزان من هذه الجهة. فإذا كان تفسير الميزان يتميز بهذا المنهج عينه في فهم آيات القرآن مضافاً إلى الاستفادة من تراث أهل بيت النبي(ص) والاستفادة كذلك من المخزون العميق الذي كان يتوفر عليه السيد الطباطبائي على مستوى المعرفة الفلسفية والعقلية، فإن التحرير والتنوير كذلك يرجح على غيره من التفاسير في هذا المنهج كما قلنا وبمعرفة عميقة قل نظيرها في فهم مفردات القرآن وتقديمها بأسلوب عذب وحديث جذاب. كما أنه يعتبر نموذجاً فذا بين سائر تفاسير أهل السنة في اتجاهه العقلي. ولهذه الأسباب جميعاً أدعي أن تفسير "التحرير والتنوير" من التفاسير المعدودة التي يمكن مقايستها بتفسير الميزان.
3- الاهتمام بتفسير المفردات:
وأقصد من هذا المصطلح الاهتمام الذي يبذله ابن عاشور في شرح كلمات القرآن ومفرداته، وإذا أردنا المقارنة هنا أيضاً، فإننا نجد أن تفسير مجمع البيان للطبرسي يشترك مع ابن عاشور في فرزه لغريب القرآن وشرحه له بشكل مستقل، وتفسير التحرير والتنوير باعتقادي لا نظير له في هذا المجال وقد كان مفسرنا واعياً لهذه الخصوصية حيث يقول حولها: "واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة. وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده، ويتناول فيه فوائد ونكتاً على قدر استعداده، فإني بذلك الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير،ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير؛ بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولاتِ القماطير، ففيه أحسن ما في التفاسير،وفيه أحسن مما في التفاسير" ().
وإن هذا المفسر العبقري باهتمامه هذا يشوق القارئ إلى هذا العمل، فيجعله يحسب أن هذا العلم هو أفضل العلوم. ولا ينفع إعطاء مثال وعرض نماذج لإثبات هذا الأمر؛ حيث إن هذا التفسير مملوء بالعمل على المفردات.
4- الالتفات إلى العلوم المعاصرة
لقد كان ابن عاشور عارفاً بعلوم عصره ومشبعاً بثقافته ما مكنه من استخراج معانٍ علمية من الآيات تدل على الإعجاز العلمي للقرآن. وذلك كما في فهمه لمعنى انفطار السماء في تفسيره لسورة الانفطار().
5- القدرة على جمع المطالب المتفرقة
لقد أظهر ابن عاشور في تفسيره قدرة فائقة على الجمع بين الأقوال المختلفة، ومن ذلك جمعه للأقوال المختلفة في قضية الحروف المقطعة في القرآن؛ حيث إنه يصنف واحداً وعشرين قولاً فيها ضمن ثلاث طوائف ثم يوازن بينها ويبدي رأيه فيها بطريقة علمية، وهو يستحق الإطراء في عمله هذا، ويحسن بنا ذكر شيء من التفصيل في هذا الأمر، فهو يرى أن الأقوال في هذه المسألة تصل إلى واحد وعشرين قولاً يمكن تصنيفها إلى ثلاث طوائف كما أشرنا وهي:
1- الحروف المقطعة رموز (ويُدرِج تحت هذا العنوان ثمانية أقوال).
2- الحروف المقطعة بهيئتها التي وردت فيها هي أسماء وأفعال خاصة (وضمن هذه الطائفة يذكر أربعة أقوال).
3- الحروف المقطعة هي حروف الهجاء العربية وقد أريد من إيرادها بهذا الشكل أهداف وأغراض خاصة (وفي هذه الطائفة تندرج ثمانية أقوال)().
نقد تفسير التحرير والتنوير
رغم المزايا التي أشرنا إليها في تفسير ابن عاشور، إلا أن ذلك لا يمنعنا من ذكر بعض الملاحظات عليه مع اعترافنا بعدم كوننا في مقام النقد بقدر ما نحن بصدد التعريف وهذه الملاحظات هي:
1- البعد عن معارف أهل بيت رسول الله(ص)
إن النقص الأكبر الذي نراه في تفسير ابن عاشور هو بعده عن الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت(ع) ولا شك في أن لهذا البعد آثاره على المواقف التفسيرية التي يختارها المفسر ومن نماذج ذلك عند ابن عاشور تفسيره لسورة "عبس"؛ حيث يرى أن العتاب موجه إلى رسول الله (ص) في القصة المعروفة التي تقول: إن رسول الله(ص) كان جالساً مع جماعة من المشركين في محاولة منه لاستمالتهم نحو الإسلام، فأتى ابن أم مكتوم فَكَرِه رسول الله(ص) مجيئه(). والحال أنّ هناك رأي آخر مبني على عدد من الروايات تفيد أن العابس هو شخص آخر غير رسول الله(ص) والعتاب كان له لا للنبي(ص)().
وكذلك نجد ابن عاشور لا يشير إلى الروايات التي تفسر نزول بعض الآيات بحق أهل البيت(ع) مع أنها من الروايات الموجودة في كتب الفريقين من الشيعة والسنة. ومثال ذلك ما نجده في تفسير لسورة "هل أتى" وتفسير الآية التي تتحدث عن إعطاء الصدقة حال الركوع، وسورة العاديات، وآية المباهلة، فإننا نجد في هذه الموارد جميعاً بعداً عن الإشارة إلى الروايات الواردة في حق أهل بيت النبي(ص).
2- الاعتماد على المولدين في شرح المفردات
قلنا سابقاً إن ابن عاشور يمتاز عن غيره من المفسرين باهتمامه الواسع بشرح المفردات وتفسيرها. ولكن في الوقت عينه لا بد من الالتفات إلى أن هذه الميزة فيها ما يعيبها بحسب المنهج العلمي؛ وذلك لأن ابن عاشور، وبخلاف الرأي المعروف عند اللغويين، يعتمد في شرحه للمفردات على "مصادر عصر المولّدين"()، وليس هذا قليلاً في تفسيره. والمولّد هو الذي يخالف القياس في اشتقاق الكلمات أو يستخدم بعض الكلمات الواردة من اللغات الأخرى في شعره أو نثره، والقرآن نزل على طريقة عهد الفصاحة وقبل دخول اللحن إلى العربية. وقد كان القول بعدم جواز الاعتماد على المولدين في الاستشهاد اللغوي مورد اتفاق عند أهل اللغة، خلا بعض الاستثناءات مثل "مجمع اللغة العربية في القاهرة". وهكذا نجد أن ابن عاشور ولكونه عضواً في مجمع القاهرة عمل في تفسيره على خلاف الرأي المعروف، ويعد في مقدمته أن المولدين هم استمرار لعصر الفصاحة وأعمالهم تستحق الثناء والمدح وبالتالي يمكن الاعتماد عليها().
بل إن ابن عاشور يعتمد في شرح مفردات القرآن على بعض المعاجم الحديثة التي طبعت في تونس أو غيرها وكما يقول أحد المهتمين: "يجوِّز الشيخ طاهر بن عاشور الاستناد إلى كل من الفصيح والمولّد وقد مارس ذلك عملياً في تفسيره"().
هذا ولكن هذا الرأي شاذ, والرأي القائل بالمنع هو الأكثر شهرة بين المفسرين والمحدثين وأهل اللغة ولا نجد منهم من يستند إلى معاجم حديثة أو معاصرة مثل المعجم الوسيط أو المنجد، أو أقرب الموارد، وغيرها.
ومن حق القارئ أن يطلب الدليل على منع الأخذ بالمولد لمصلحة الفصيح القديم؛ فلذلك نقول: إن الكلمات التي استخدمها القرآن أو وردت في السنة الشريفة كانت مفهومة وواضحة المعنى بالنسبة للمعاصرين وانتقلت هذه المعاني إلى الأجيال القريبة منهم، وأما بعد مرور الزمان واختلاط العرب بغيرهم من الأمم طرأ على مفردات اللغة العربية تغيير كبير لجهة معاني المفردات أو اشتقاقاتها، وفي الواقع إن بعض الكلمات اكتسبت معاني اصطلاحية جديدة قد تكون بعيدة كل البعد عن معانيها القديمة التي كانت تدل عليها بالأصل، فعندما نقرأ هذه المفردة في القرآن أو السنة الشريفة لا بد من أن نحملها على المعنى القديم الذي كان لها في عصر النزول لا المعنى الجديد الحادث.
حصار أم سوء حظ؟
في ختام هذه المقالة أود طرح تساؤل حول علل عدم اشتهار تفسير التحرير والتنوير؟ وذلك أن هذا التفسير بمزاياه وخصائصه التي يحتوي عليها لم يحظ بما يستحق من شهرة في العالمين العربي والإسلامي, بينما نجد أن تفاسير أخرى بسيطة أو متوسطة حازت شهرة أوسع مما حاز. فنجد أن الكتاب والمفكرين العرب حتى لو كانوا من أهل السنة لا يستندون إلى التحرير والتنوير في أبحاثهم ودراساتهم, بل إننا لا نجد من كتب حول هذا التفسير سوى ابن المؤلف وكاتب آخر تونسي أيضاً() لماذا هذا التجاهل؟
أهو لأن مفسّرنا اتبع منهجاً مخالفاً للمشهور في الاعتماد على المولدين ما دعا إلى محاصرته وعدم الترويج له أو الاستفادة منه؟ أم أن هناك أسباباً أعمق من هذا السبب دفعت إلى هذا التجاهل أم أنه سوء الحظ, كما يقال, هو الذي كان وراء بقاء الكتاب في دائرة الكتمان والبعد عن متناول أيدي أهل الفضل والعلم؟
يبدو لي أن السبب لا يكمن في منهجه اللغوي المشار إليه؛ وذلك لأننا لا نجد إشارة إليه في كتاب أو مقالة، بل إنني أعتقد أن شيوع أجواء التحديث في عصر المؤلف يضعف احتمال فرض الحصار على كتاب لاعتماده على المولَّد في اللغة. وليس سوء الحظ هو الذي أدى إلى عدم اشتهار الكتاب.
بل هناك عوامل أخرى أدت إلى ذلك هي():
1- عقلانية المؤلف التي تقرّبه من المعتزلة وتبعّده عن الاتجاه الأشعري. رغم كون ابن عاشور مالكياً بحسب الظاهر إلا أنه كان حر التفكير ويؤمن بضرورة التجديد والاجتهاد، ويمكن استنباط هذا الأمر من خلال صفحات كتابه؛ حيث لم يكن يرى نفسه ملزماً بموافقة أسس التيار الكلامي الأشعري الذي يتبناه أكثر إخواننا من أهل السنة. ومن هنا, نراه يتبنى مواقف كلامية هي أقرب إلى الأمامية والمعتزلة منها إلى الأشاعرة().
2- المضمون الحي والإصلاحي
إن المطلع على تفسير التحرير والتنوير يفهم بوضوح أن ابن عاشور من الناحية السياسية والاجتماعية كان داعية مصلحاً معارضاً للسلطة، ومن الواضح أن هذا الاتجاه لا ينسجم مع مذاق الحكومات ولا المراكز الدينية المعتمدة على الدولة ويمثل هؤلاء في العالم وخاصة في الفترة الماضية مفتاحاً للشهرة والبروز.
3- التنافس بين الشرق والغرب
بين الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي تنافس يرجع إلى ماضٍ سحيق كالتنافس بين قرطبة والقاهرة وبغداد، ومازال هذا التنافس موجوداً حتى عصرنا هذا. فالأزهر يرى نفسه الوصي الوحيد على المعارف والعلوم الإسلامية وخاصةً بين أهل السنة من المسلمين؛ ولذلك يُنظر إلى الكتب التي تصدر في القيروان أو غيرها من مدن المغرب العربي والإسلامي بشيء من الاستخفاف.
4- البعد عن المراكز العلمية الشرقية
ويحتمل أن هذا التفسير حظي بشيء مما يستحق من شهرة في المغرب الأمر الذي لم يتحقق في المشرق العربي؛ ولذا يمكن أن يضاف هذا البعد الجغرافي عن المراكز العلمية المشرقية إلى غيره من العوامل المتقدمة. وعلى أي حال إنني أدعو العلماء المشرقيين وخاصة الشيعة منهم جميعاً إلى مطالعة هذا التفسير والعناية به في مقام المقارنة وغيرها من الأبحاث القرآنية.
الهوامش:
() الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ج6، ص 176.
() الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج1، ص 5-6.
() المصدر نفسه، ج30، ص 189-192.
() المصدر نفسه، ج30، ص 171-172.
() المصدر نفسه، ج1، ص 207-218.
() المصدر نفسه، ج30، ص 103-104.
() لمعرفة الروايات الواردة في تحديد الشخص الذي عبس في وجه ابن أم مكتوم راجع: تفسير نور الثقلين، ج5، ص 508-509.
() المولدون هم الشعراء والأدباء الذين أتوا بعد عصر الفصاحة الذي يحدده بعضهم بنهاية القرن الثاني وآخرون بنهاية القرن الثالث في المدن, والقرن الرابع في البادية. ولكن مجمع اللغة العربية في القاهرة عد الفصيح كل كلمة استخدمت في العربية ووافقت قياساتها. أنظر: محمد رشاد الحمزاوي، من قضايا المعجم العربي قديماً وحديثاً، بيروت، دار الغرب الإسلامي.
() التحرير والتنوير، ج1، ص 137.
() من قضايا المعجم العربي، ص 72.
() ممن تحدث عن تفسير التحرير والتنوير ابن المؤلف أو أخوه محمد الفاضل بن عاشور في كتابه المسمى بـ"التفسير ورجاله" وكذلك الدكتور حمزاوي أشار إلى ابن عاشور وتفسير في كتابه "من قضايا المعجم العربي"، ص 65-74.
() أنظر: من قضايا المعجم العربي، ص 66، حيث يصرح المؤلف بالعتب على أهل القلم؛ لأنهم لم يعطوا تفسير ابن عاشور حقه.
() إن الالتفات إلى هذا الأمر يرجع الفضل فيه إلى تذكير أخي الفاضل السيد محمد علي إيازي.